أطياف من الذكرى

جلست أمامي على الطاولة تحاول إشغال نفسها بالنظر في ورقة لا أدري مابها...، كالعادة تصبح الأجواء بهذا الشكل ولا أدري ما السبب

لم أعد أحتمل أو أفهم ، كلما هممت وعزمت أن أتكلم مباشرة في الأمر أشعر بالكلمات تفر مني وأشعر أن الوقت غير مناسب ، ماذا إقترفت أو ماذا حدث ؟؟؟

ظللت أنظر اليها وأفكر حتى رفعت عيناها وابتسمت ابتسامة ذابلة وطلبت مني أن نرحل.....تذكرت كيف كنا نقضي الوقت سوياً ، لم نكاد نفترق إلا ساعات الليل المظلمة الطويلة ، كان مجرد تذكرها كفيل بإذابة كل الثلوج من عليّة المنزل وتتبدل بنسمات ليالي الصيف الدافئة فتشعل الغرفة وتضئ قلبي حتى الصباح على أمل أني سأراها في الغد.....

تذكرت عندما كنا نجلس أمام البحر الثائر في أوقات الشتاء نحتل مقاعدنا ولانصمت قط ! ، كنت أحب الإستماع لها طوال الوقت بلا ملل أوكلل ، في يوم ما كنا نتفق على أن نلتقى باكرا في اليوم التالي ( بحجة ) أن نكثف أوقات دراستنا قبل إختبارات نهاية العام فمازحتها قائلاً - مبكر جداً هذا الوقت ألم تملّي مني بعد ؟ ، فتكسرت ملامحها على وجهها كقطع الزجاج الرقيقة وانتحرت دمعة من على شفا عينيها.........

فشعرت أنني أتصدع وجسدي كله يهوى ، مسحت دموعها في ذهول ونظرت في عيني فتجمدت بلاحراك فتداركت نفسي قائلا لها - أنت أغلى إنسان عرفته في هذه الدنيا .......وعادة لا أتفوه بمثل هذه الجمل وكنا نعرف مابداخل كل منا ومقداره بدون أن نتفوه به أو نملأ به قصائد أو نحفره على أجساد الأشجار المسكينة ، ولكن منذ هذه الليلة صاغت أيدينا آلاف الحروف ، حروف لها وهج وروعة لانطفئان أبداً

كلما عادتني ذكرى زاد الحزن وتضاعفت الحيرة ، من أين أصابنا هذا الصمت وهذا الفتور ، لقد حرصت على إخفاء ماقد يثير قلقها أو حزنها دوماً............لم أنسى العبودية ، ولكن سوى ذلك كنت لها !! ، فماذا اقترفت !

التهم الوقت الطريق في سرعة ووصنا إلى المكتبة وقبل أن نفترق قلت لها - مابكِ ! ، لن أذهب حتى أعرف فقالت لاشئ بخصوصك أنت إنه خطأي ولا أستطيع التكلم في الأمر الآن ورحلت مصممة على تركي بهذا الشكل ، وندمت أني قد سألت ، فقد تمكنت مني كل شياطين المدينة ، تصور لي كل ماقد يكون حدث....

الخيانة ؟!.......أهذا هو الأمر ، شعرت للحظة أن كل مامررنا به كان مملكة توجت عليها ثم دكت وذهب ماتبقى منها أدراج الرياح ، للمرة الأولى أشعر أنها غريبة لا أعرفها ، وهمس قلبي في رجفة لربما ليس الأمر هكذا ، ولكن ماذا قد يكون ! ، جلست في قاعة المحاضرات وسط ضوضاء تلاشت وخضعت لأصوات عقلي الذي لم يهدأ ، وفجأة جاءت إحدى صديقاتها ،و لم أرد يوماً التعرف عليهن ، وبالكاد أعرف أن هذه صديقتها ولكن رغم ذلك أتت وجلست أمامي وكأنها تعرفني منذ سنين ، ولربما هذا صحيح !

وألقت التحية وبدأت تستدرجني وتستخرج مني الحوار وكل مايدور بعقلي هو ( ماذا وراءكِ ؟ ) تعلمت بضع دروس أولها لاتثق بمن يحدثك خاصة لو كانت مرأة أو فتاة ! ، ظللت أسرد في عقلي كل الأحتمالات الممكنة والغير ممكنة كي أكشفها ، ولكنها لم تبد ولم ترمي إلى شئ على الإطلاق ، وإنتهت المحاضرة بدون أن أنصت إلى كلمة منها قط وظللنا نتحدث بعد انتهاء المحاضرة بدون أن نذكرها قط

حتى أتت كي نذهب سوياً كعادتنا فوجدت صديقتها تجلس بجواري نتحدث وكأننا نعرف بعضنا من سنوات ، شعرت بالغيرة تسري في عروقها ، رغم احتفاظها بكامل هدوءها وتصنعها بل إتقانها لتعابير الوجه العادية التي لاتظهر فرحاً ولا غيظاً ، جلست معنا وكأن لاشئ يجري حتى استأذنت من صديقتها وخرجت وهي تمسك يدي على غير عادتها ! ، فكرت أنها أرادت الإعلان لصديقتها بأنني ملكها....

كانت يديها باردة كالثلج وشعرت بالثورة بداخلها وكانت تقبض على يدي وكأنني سأهرب منها ، وكنت حائراً لدرجة أنني فكرت في إنهاء كل شئ معها وهو يعني لي ( إنتحارا ) ، وبمجرد أن ابتعدنا قليلاً بدأ الغضب الشديد يظهر على وجهها وتوجه لي الأسئلة عن هذا الحوار واللقاء.....فبادلتها بالأسئلة وتشاجرنا للمرة الأولي

وللمرة الأولى لايرانا الطريق سوياً ، وللمرة الأولى أشعر أن الليل بارداً وأن غرفتي متجمدة وقلبي مظلم ، عزمت على إنهاء كل شئ في اليوم التالي إذا لم أتبين الأمر منها ، وقفت أنتظر قدومها وذهابها لمحاضراتها......لم تأت ، طال الإنتظار ولم تأت ، خرجت من الجامعة عازماً الذهاب لمكان أفكر فيه قبل أن أتهور وأفعل ما أندم عليه ، وإنشقت الأرض لتخرج من باطنها صديقتها أخذت يدي لتسلم علي وهو مبتسمة وكأنها هي من أسرت نفسي في قلبها وليس صديقتها ، قالت لي أتمانع في أن نخرج قليلاً ؟ ، أريد محادثتك ! ، خرجنا وظلت تتحدث إلي وكنت أشعر بمدى سعادتها وهي معي ولا أعرف لماذا ، لست مميزاً إلى هذا الحد ولا إلى حدود أخرى ، لكن شعرت بصدق إعتدته لكن ليس منها ، كانت كلماتها تفصح عن مشاعرها وهي تظن أنها ترسل لي التلميحات ، ووجدت نفسي أقودها إلى مقعدنا أمام هذه المنطقة الخالية من البحر ، شعرت بالصدمة عندما جلست مكانها وتثاقلت جداً وأنا أجلس معها ، لن أكذب وأقول أنني لم أشعر بالراحة وأنا أتحدث معها ، لربما لأنها كانت تذكرني بأيام أشك أنني سأمر بها ماحييت.....

بدأت تصارحني بكل شئ ، وجمعت كل الثبات والهدوء فقلت - أتحبين من يحب صديقتك ؟! ، قضبت حاجباها وقالت علّك وضعت قلبك وقتاً طويلاً في يد من لاتستحق ! ، لقد كانت أحياناً تخرج مع شاب وأعتقد أنهما سيتزوجان ، ألا تذكر عندما كانت تتحجج بالمرض أو الذهاب لزيارة إحدى قريباتها في الشهور الأخيرة ؟! ، أفيق ! ، لطالما خدعتك ولخوفي عليك وليس عليها قررت أن أصارحك ، فأنت لاتستحق كل هذا !

بعد هذه الكلمات المشحونة بهذا الغذب والحب والقهر رأيت أمواج البحر أطيافاً وأشباح تنظر إلى بمقت وتصرخ في مجون وكنت أشعر بأنني أريد قتل كل حي على هذه الأرض جزاء لما فعلته أو أظنها فعلته كما قالت صديقتها

تركتها تجلس ، وقمت مسرعاً ذهبت إلى بيتها لأول مرة لا أهتم لأي شئ ، لقد كانت تعرفني والدتها ووالدها كانت في حكم ( خطيبتي ) كانت لي وليس لأحد فهذا أقل شئ لقاء أنني حصرت معنى كلمة أنثى فيها وحدها وليس سواها

لم أصعد وأجريت إتصالاً وردت علي والدتها ، سألتها عنها قالت - لا شأن لك بها هي ستتزوج الشهر القادم ولا أريد أن أسمع أنك قد حاولت الإتصال بها بأي طريقة وإلا سأعلم والدها وسيعرف كيف يتصرف معك...وأغلقت الهاتف

وعدت للمنزل أشعر أنني أحتضر حقاً وثبت هذه الفكرة في رأسي ، فلارغبة لدي في شئ بعد ذلك ، جائني إتصال فلم أقم بالرد حتى إستسلمت بعد المرة الثامنة وكنت متيقن أنها صديقتها فلن أتعجب لو لديها أرقامي وتعرف كل شئ عني

قالت لي أرجوك قابلني الآن أعلم كيف تشعر أنت تحتاج لشخص تتكلم معه ، لا تسحق نفسك وتقتلها سأنتظرك في نفس المكان ، لم يملئني إلا الغل والغضب وأنا ذاهب إليها ولا أعرف لماذا ذهبت ، جلست تحاول أنت تجلس مكانها في قلبي قبل أن أفيق مما أنا فيه وأغلقه للأبد ، قالت أنها تريد الزواج مني ويجب أن نرتبط في أسرع وقت ، فكرت جدياً في الأمر ولكن شعرت بالألم من أجلها رغم كل شئ فلن أستغلها فقط كي أنتقم من أخرى ، وفكرت أنها مهما أظهرت إخلاصاً ، فقد أظهرت الأخرى ماهو أقوى منها

أنهيت الإختبارات ، وأخبرت والدي أني سأذهب لأعمل عند قريب والدتي بدولة بعيدة في مجاهل الهادي ، لم يعترضني أحد ، وقبل السفر ورغم كل شئ لم أتخلص من هذا الحب في قلبي ، لقد كان يتشبث بي وكأنه مرض لعين ، وقبل السفر بيومان أتاني آخر أخبارها ، لم تذهب إلى بيت زوجها ، ولكن سكنت قبراً مظلماً نامت به وانعدم الوقت وتوقف زمانها ، وصارت الأبدية بضع ساعات

لقد كان والداها يجبراها على الزواج حتى أصيبت بإنهيار وتدهور في حالتها الجسدية ، أيقظوها صباحاً ولم تستيقظ ، ماتت هادئة كالملاك على سريرها ، وكيف لها أن تموت....بدوني ؟

أغلقت الباب والنوافذ وبكيت كما لم أبك في صغري ولا كبري ، ظللت أحدثها وأحدثها شارفت على الجنون ، طوال الوقت أشعر أنها بجانبي بل أكاد أن أقسم أنها بجانبي على سريري تمسح على رأسي ولكني لا أرى إلا الظلام

ليتها تزوجت أو صفعتني أو قتلتني ، ياليتني مت قبل أن أشعر أني أريد ذلك ، قضيت شهور في هذه الحالة حتى أقنعني الجميع أن أسافر فسافرت ، أجلس كل يوم ليلاً على رمال الهادي

أتطلع إلى الأمواج وينقل إلي الهواء همسات وكلمات غير مفهومة أخالها منها ، أحدثها أحياناً وأينما تقع عيناي لاتقع إلا على عيناها ، لا أرغب إلا في اللحاق بها ، كي نكمل مابدأناه وإذا إستحال هذا هنا فقد نحققه هناك....ختمت كل دفاتري ودفاترها بهذه الأمنية علها تتحقق

شكرا لك

يعطيك العافيه يالغلا